في زمن كانت فيه القرى تفتقر للعلم، وكان التعليم الأزهري حكرًا على المدن الكبرى، خرج من قرية “نجع سالم” فارس من فرسان الأزهر، اسمه الشيخ أحمد محمود إبراهيم، ليكون علامة مضيئة في تاريخ الأزهر الشريف والتنوير الديني والتربوي في صعيد مصر.
ولد الشيخ أحمد محمود عام 1928، لكنه عاش بعقل وقلب يسبقان عصره، فكان منارة علم، وصوت اعتدال، وذراع بناء في كل مكان حلّ فيه.
من الأزهر بدأت الحكاية
التحق الشيخ أحمد محمود بالمدارس الأزهرية حتى نال الشهادة العالمية من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1950، حاصدًا الليسانس وإجازة التدريس في التخصص اللغوي. لم تكن تلك مجرد شهادة، بل كانت تأشيرة عبور نحو رحلة عطاء لا تعرف التوقف.
بدأ التدريس في معهد إسنا الأزهري، وتنقل بين جرجا وقنا، حتى استقر به المقام في معهد نجع حمادي، ثم تقلّد منصب وكيل المعهد، قبل أن يصبح شيخًا لمعهد بهجورة.
وهناك، لم يكن مجرد إداري، بل كان “مُعمّرًا”، يؤسس المدارس والمعاهد للبنين والبنات، ويزرع شتلات الأزهر في قلوب القرى.
رجل المهام المستحيلة
حين تولى قيادة التعليم الابتدائي الأزهري بمنطقة قنا، كانت تشمل محافظات قنا والأقصر والبحر الأحمر، فلم يكتفِ الشيخ أحمد بالمكاتب، بل جاب المحافظات، ينشئ معاهد في الغردقة والقصير وسفاجا، بل وصل إلى مرسى علم، في أقصى جنوب البحر الأحمر، ليضع هناك حجر أساس للأزهر في أقاصي الصحراء.
في مسقط رأسه، نجع سالم، بنجع حمادي أنشأ مجمعًا أزهريًا متكاملًا (ابتدائي–إعدادي–ثانوي) للبنين والبنات، وكرر المشهد في أولاد نجم، حتى صارت كل قرية في المنطقة تملك مدرستها الأزهرية، بفضل عزيمته وحنكته ودأبه.
سياسي يخدم الناس لا المناصب
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، أصبح عضوًا نشطًا في المجلس المحلي لمحافظة قنا من 1998 وحتى وفاته عام 2001، وخلال تلك الفترة، استثمر موقعه في رصف الطرق وتوصيل مياه الشرب وتنمية المدارس، وقاد حملات التبرع الشعبية لبناء المؤسسات الأزهرية، مستثمرًا مكانته بين الناس وكاريزمته القيادية الفذة.
الحج الأخير.. وداع من الحرم
حج الشيخ خمس مرات واعتمر عشرًا، وكان آخرها عام 2001 حين سعى جاهدًا للحج رغم أن “الدور لم يأتِ” فتواصل مع اللواء عادل لبيب، محافظ قنا وقتها، ليحصل على تأشيرتين له ولابنته الدكتورة عزة، وسافر إلى الأراضي المقدسة كأنه يودعها، وبعد عودته بشهرين، فاضت روحه إلى بارئها، وفي يده أوراق تخص إنشاء معهد أزهري جديد.
رجل من نور.. وصوت اعتدال
خطيب مسجد نجع سالم لأكثر من 30 عامًا، قائد قوافل “النور” الرمضانية، مربي أجيال، وعاشق للغة العربية، عاش بسيطًا، مرحًا، يضحك دون أن يُسقط هيبته.
سافر ابن نجع حمادي في بعثة علمية إلى الجزائر وفرنسا، وقرأ الصحف يوميًا، وتابع إذاعة القرآن الكريم باستمرار، وأسّس فريقًا للمسرح الديني الأزهري، ضاربًا أروع الأمثلة في الوسطية والتجديد دون خروج عن الثوابت.
بيت العلم والتربية
أنجب أربعة أبناء، منهم أطباء ومهندسون، منهم من توفي صغيرًا، وترك خلفه بنات كريمات يعملن في التعليم، وارتبط الشيخ بصداقات قوية مع علماء مثل الشيخ عثمان عباس والشيخ نصر الدين عبد النعيم، وكان من المقربين إلى أبناء الشيخ أبي الوفا الشرقاوي.
عاش مع الناس.. ومات من أجل رسالة
رحل الشيخ أحمد في 2001، لكنه ترك مؤسسات شامخة، وأجيالًا متعلمة، وسيرة لا تُنسى، فهو باختصار، أحد صناع التنوير الحقيقي في صعيد مصر. صدق فيه قول الشاعر: “علوٌّ في الحياة وفي الممات.. لحقٌّ أنت إحدى المعجزات.”