اخبار عاجلة
أسطوات الغناء الشعبي
أسطوات الغناء الشعبي

محمود عبد الشكور يكتب: عرفت الفلكلور من قلب القرية.. و أسطوات الغناء الشعبي أفضل كتاب في 2021

مفتون أنا بالغناء الشعبي وراثة عن أبي الصعيدي، الذي كان يسحب مقعدا ليقضي اليوم بطوله مستمعا ومغنيا مع الفعلة، وهم يبنون عمارة جديدة أمام بيتنا في شبرا، أومترنما مع نفسه فيما بعد بأهازيج طفولته، أو بأناشيد الذاهبين الى الحج، أو حتى مستدعيا تعاويذ جدتي، أمه، الست فهيمة، التي كتبت عنها كثيرا.

أسطوات الغناء الشعبي

 
في مرحلة تالية عدنا الى الصعيد، فعرفت الفلكلور مباشرة في قلب القرية، من أغنيات الأفراح، الى أصوات العديد في الجنازات، اشتركت في الحضرة، وشاهدت المولد على الهواء، فقد كان مولد سيدي الضمراني أمام بيتنا مباشرة في مدينة فرشوط، بلد شيخ العرب همام، بل واحتفظت الذاكرة بأشعار منغمة تترحم على أيامه مثل “هيّاك يا دار هيّاك/ بس ضبّتك غيّروها”.
 
يمكنك الآن أن تتخيل مدى سعادتي بألوان الغناء الشعبي في سنوات القرن العشرين، التي امتلأت بالمواهب الفذة كتابة وتلحينا وغناء، ويمكنك أن تتخيل مدى سعادتي أيضا وقد قرأت كتابا بديعا، أعتبره من أفضل كتب 2021، من تأليف الصحفي والشاعر وعاشق الغناء والموسيقى محمد العسيري، بعنوان “نهاوند .. أسطوات الغناء الشعبي في مصر”.
 
الكتاب الصادر عن دار بتانة يبدو مثل موال سردي ممتع، اختار مؤلفه، كقطفة أولى، مجموعة من كبار صناع الأغنية الشعبية المصرية، شمالا وجنوبا، ملحنين ومطربين، أسطوات للأغنية الفردية، وأصحاب للفرق ، منهم المونولوجيست، ومنهم الملحن القدير، يحكي قصتهم من البداية للنهاية، أما الألوان التي أبدعوا فيها فتشمل تقريبا معظم القوالب الغنائية، من الموال وشعر المديح النبوي، الى المربع والمونولوج الفكاهي والأغنية العاطفية الكلاسيكية، ولكن بروح شعبية,
 
اختار العسيري أن يحمل كتابه اسم “نهاوند” تحية لهذا المقام الموسيقي الشهير، الذي اتسع واستوعب الغناء الحزين والمبهج، غناء الرجال والنساء، فكأنه مادة طيعة للفنان الشعبي يشكلها كيفما شاء.
 
ما أسرني في الكتاب، ليس فقط معلوماته الغزيرة عن أبطاله، ولكن أيضا الطريقة التي كتب بها المؤلف حكاياته، إنه يسرد بلغة بسيطة لا تترفع عن العامية، بل ويبدو السارد وكأنه يجلس معك على مصطبة قريته السوهاجية، يبدأ كل بورتريه لفنان أو فنانة بذكريات طريفة في القرية أو في مدينة سوهاج، ومنها ينتقل بصنعة لطافة وفن الى الشخصية التي يتحدث عنها، ولكنه لا يسكب المعلومات أو يتخلص منها، ولكنه يستحضر الفنان أو الفنانة كقصة تتخللها كلمات بعض أغنياتهما الشهيرة، حكاية لها بداية ووسط ونهاية، تكاد ترى فيها الشخصية من فرط رسم ملامحها، وتكاد تسمع أغنياتها إذا كنت تعرف هذه الأغنيات، أو تشعر بالرغبة في البحث عن الأغنية وسماعها، إذا لم تكن قد سمعتها من قبل.
 
بدا لي، وقد التهمت الكتاب في جلسات قليلة، رغم أن صفحاته تناهز 300 صفحة، أنني قمت برحلة في عقل وروح ولغة الناس، البشر العاديين، وأن هؤلاء الفنانين والفنانات من عمر الجيزاوي وبحر أبو جريشة وحفني أحمد حسن وعبد العزيز محمود الى محمد رشدي ومحمد قنديل وسيد إسماعيل وخضرة محمد خضر وأحلام وسعاد مكاوي والريس متقال وحورية حسن وعبد الغني السيد وعزت عوض الله وبدرية السيد والثلاثي المرح وفاطمة علي، إنما يمثلون الناس والشخصية المصرية، بقدر ما يمثلون أنفسهم وشخصياتهم، لا شيء يشبه أغنياتهم مثل حياتهم العفوية المتدفقة، ولا شيء يليق عليهم مثل أن يغنوا وينشدوا ويعبروا، بل إن تفاصيل حياتهم بتقلباتها أحيانا، بلحظات التراجيديا والميلودراما، تشبه موالا حزينا أزرق، أو يمكن أن تكون جزءا من ملحمة شعبية، لا تقل إثارة عن ملاحم وحكايات يتغنون بها في الموالد، أو في شرائط الكاسيت.
 
صورة المغني النمطي هنا لا محل لها من الإعراب، وإنما نحن أمام شخصيات عادية تماما، مواهب خالصة، لا أثر فيها للصنعة، تدهشنا المهن البسيطة التي عرفوها: عمر سالم الشهير ب عمر الجيزاوي عمل في ورش الطوب، وفي طائفة المعمار، ومحمد طه وبدرية السيد عملا في مصانع النسيج، وبحر أبو جريشة كان صول بحرية، وفي قول آخر عمل في هجانة حرس الحدود، وعبد الغني السيد كان استورجيا يقوم بتلميع الأثاث، والملحن العظيم إبراهيم رجب كان يعمل في طفولته مهنة عجيبة يطلقون عليها “جروم”، أي يرتدي بدلة أنيقة، ليفتح باب السيارة لأميرة من أسرة محمد علي، كما عمل في محل طرابيش، وعمل أيضا كصبي ميكانيكي، لقد خرجوا حرفيا من قلب المجتمع، ولكن الموهبة صنعت منهم نجوما، أخذوا من الناس، فأحبهم الناس.
 
تدهشني كثيرا اكتشافات جميلة يقدمها الكتاب لمطربين تبدو أعمالهم أكثر شهرة منهم: صلاح عبد الحميد مثلا مدرس الموسيقي، قد لا يعرفه الجمهور اسمه، ولكنه هو نفسه صاحب صوت الريس حنتيرة في أوبريت “الليلة الكبيرة”، وصاحب صوت أنور وجدي في أغنية “كروان الحظ وبلبله” في فيلم “دهب”، وهو نفسه (صوتا وصورة) المطرب سكر عبد الحميد، الذي ظهر وهو يؤدي أغنية بعنوان “سد يانونو سد”، في فيلم “إسماعيل ياسين في البوليس”.
 
يعرفنا الكتاب عن أدق التفاصيل عن الفنان أو الفنانة: الريس متقال مثلا اسمه الأصلي عبد المتعال قناوي، وكان الأجانب ينادونه “متئال” اختصارا لاسمه، ولأنهم لا يعرفون نطق حرف العين، فيبدلونها همزة، ثم أصبح اسم الرجل “متقال”!

أسطوات الغناء الشعبي

هل تعلم أن عبد العظيم عبد الحق قد لحّن أغنية في مدح لرسول وغناها سيد مكاوي بعنوان :”محمد نبينا سراج الأنام”؟ وهل تعرف أن عزت عوض الله، مطرب الإسكندرية الشهير، وصاحب الأغنية الجميلة “يازايد في الحلوة عن أهل حينا” قد مات مقتولا في عرض الشارع بعد حياة قصيرة بائسة؟ وهل تعرف أي شيء عن فاطمة علي أول مطربة تغني لعبد الرحمن الابنودي وكانت أغنية عن مقاومة دودة القطن ، وهي نفسها صاحبة أغنية الفرح الشهيرة “طالعة السلالم يا ماشالله عليها”؟
 
مادة الكتاب هي لحم الواقع الحي، ممتزجا بأغنيات من كل شكل ولون، بعضها يؤرخ لأحداث وطنية مثل التحول الإشتراكي، والوحدة المصرية السورية، وبناء السد العالي، ومدح رئيس الدولة، وبعضها يحكي عن قصة حقيقية مسرودة من وجهة نظر شعبية مثل ملحمة “شفيقة ومتولي” التي صنعت شهرة حفني أحمد حسن، ومثل موال “أدهم الشرقاوي” الذي رسخ أقدام محمد رشدي، وبعضها أغنيات فكاهية مثل “بطلوا ده واسمعوا ده ” لعزيز عثمان، وبعضها تمثل حكمة الحياة مقطرة، وتعبر عن قيمة راسخة في حياة الشعب، مثل موال الصبر لشفيق جلال، وأغنية “يا عطارين دلوني” لأحلام، وبعض الأغنيات عاطفية رقيقة مثل “البيض الأمارة والسمر العذارى” لعبد الغني السيد.
 أسطوات الغناء الشعبي
في لحظة ما من القراءة يبدو لك كأنك قد دخلت سرادقا ضخما للغناء، يرد فيه كل مطرب أو فريق على الآخر، يهتف الريس متقال :” ياعم ياللي لمونك ع الشجر مايل/ من قلة المية ولاّ بختي أنا مايل”، فترد فاطمة سرحان: “قلمك يا زمان على الخدين واجعني/ كسر لي سني وضرس العقل وجعني/ خايف أقول آه كلام الناس يوجعني”، فتدخل بدرية السيد (بدارة) مرددة موالها الأشهر:” طلعت فوق السطوح أنده على طيري/ لقيت طيري بيشرب من قنا غيري”، أو قد تردد أغنيتها الجميلة:” يا حلو قولي على طبعك وانا امشي عليه/ الحب بدعة وناره والعة وانا امشي عليه/علمني طبعك أطاوعك يا منى عيني/ اوصف طريق الهوى ليّا وانا امشي عليه”.
 
إنه الغناء الموازي الذي صار رسميا عندما سمعه الناس في الراديو أو في شرائط الكاسيت أو في أفلام السينما، بصمة الناس العادية على قوالب الغناء، كبار الملحنين والمؤلفين استلهموا الفلكلور، ولحنوا لأصوات شعبية شهيرة، من محمود الشريف وأحمد صدقي وعبد العظيم عبد الحق وسيد مكاوي وإبراهيم رجب والموجي وبليغ والطويل وعلى إسماعيل، ومن الشعراء سيد مرسي والأبنودي وعبد الرحيم منصور وفتحي قورة ومرسي جميل عزيز، ارتدت الأغنية الشعبية ومطربوها ومطرباتها كل الألوان، ووصلت الى كل الفئات، وعبر كل وسائل الغناء، من الأفراح والسرادقات الى حفلات أضواء المدينة، والحفلات التي تنظم في بلاد العالم.
 
هناك أيضا تجربة فرقة الفلاحين التي كونها زكريا الحجاوي، والتي خرجت منها أصوات عظيمة، وكلها تنويعات على نغمة الشعب.
 
هذا الكتاب يبعث في قارئه ذكريات خاصة وعامة، وطربا وشجنا وسعادة، يدعوك للبحث لاستكمال ما لم تسمع، ويجعلك تردد كلمة “الله” تعبيرا عن الإعجاب، وكأنك تستمع الى قفلة حراقة، أو موال معبر، أو صورة شعرية مؤثرة، ويثبت الكتاب بذكاء أن كثيرا مما نسمعه الآن لا علاقة له بالغناء الشعبي الحقيقي، ولكنه مسخ أو صورة بائسة لفوضى غنائية، فالغناء الشعبي الحقيقي له أصول ومناهج واساتذة .
 
في انتظار أجزاء قادمة من هذا التأريخ الممتع للغناء الشعبي المصري، غناء واصواتا وألحانا وكلاما، سواء كان أصحابه من المعروفين أو من المجهولين.
أسطوات الغناء الشعبي

موضوعات متعلقة :

الزواج أو القتل.. حبس زوجين كبلا فتاة لإرغامها على الزواج بقنا  

علشان رافضة تتجوز قريبها.. أب وزوجته يكبلان إبنتهما بجنزير ويرغمونها على تناول السم في قنا

من بينهم أمين شرطة.. إصابة 7 في حادث مروري بطريق نجع حمادي قنا الصحراوي

إصابة أسرة كاملة من بينهم 5 أطفال في حادث انقلاب سيارة ملاكي بقنا

إصابة ربة منزل و3 أطفال بحالة تسمم غذائي في قرية البطحة بنجع حمادي  

أنهت حياة شقيقها بمساعدة زوجها.. ضبط هاربة من المؤبد في قنا (التفاصيل)

حبس ابن العمة 4 أيام على ذمة التحقيقات.. تفاصيل قضية الطفلة ريتاح في قنا

حاول الاعتداء عليها فقاومته.. «ريتاج» طفلة في عمر الزهور ضحية ذئب بشري في قنا

“نجل العمة” أنهي حياة الطفلة ريتاج.. أمن قنا يكشف تفاصيل قضية قوص

سرقة مدرسة ثانوية في قنا.. الأمن يضبط المتهمين ويعيد المسروقات

بعد سرقة 50 ألف جنيهاً من منزل مواطن.. لأول مرة ممنوع دخول المتسولين لقرية النواهض بأبوتشت

About بتوقيت النجع

شاهد ايضا

الشابو

أبوالمعارف الحفناوي يكتب| الكيف المُدمر..  انقذوا شباب قنا من خطر الشابو: خراب بيوت مستعجل

لا نستطيع أن ننكر جهود الأجهزة الأمنية بقنا، في الآونة الأخيرة من شن حملات متكررة …